يونس الجزائري مؤسس المنتدى
اسم الثانوية : جامعة سعد دحلب البليدة الجنس : عدد المساهمات : 1223 نقاط : 3805233 السٌّمعَة : 59 تاريخ الميلاد : 21/10/1993 تاريخ التسجيل : 20/09/2010 العمر : 31 الموقع : مدينة الأربعاء البليدة العمل/الترفيه : المطالعة، التصميم
| موضوع: مفهوم الرغبة و الحاجة فلسفيا الإثنين سبتمبر 12, 2011 12:19 pm | |
| مفهوم الرغبة و الحاجة فلسفيا
تحليل مفهوم الرغبة لابد وان يحيلنا الى تحليل مفهوم الحداثة اذ انه, وان لم يكن مبحثا جديدا, الا ان طريقة طرحه تمت بكل تشويق واثارة في المرحلة الحديثة, ومن هنا جاء التلازم
رغم أن الموضوع طويل نوعا ما، لكنه مفيد لمن أراد..
مفهوم الرغبة و الحاجة فلسفيا تحليل مفهوم الرغبة لابد وان يحيلنا الى تحليل مفهوم الحداثة اذ انه, وان لم يكن مبحثا جديدا, الا ان طريقة طرحه تمت بكل تشويق واثارة في المرحلة الحديثة, ومن هنا جاء التلازم بين المفهومين. ينطلق باطاي في تحديده لمفهوم الحداثة من نقطة انطلاق أولانية وهي اعادة تثمين العناصر الاجتماعية المؤثرة في التفاعلات الاجتماعية المختلفة وبخاصة عنصرين اثنين هما: التنافر والتجانس بالاستناد الى خلفية نظرية مؤداها ان إشكالية الحداثة برمتها انما هي مناقشة لهذه المسألة, ذلك ان الحداثة بالنسبة لباطاي تبدو وكأنها مضغوطة داخل تاريخ للعقل يبدو بدوره وكأنه مجرد مسرح تتجابه فيه بضراوة قوى السيادة وقوى العمل وتاريخ عقل ينطلق من البدايات القديمة للمجتمع المقدس لينتهي في عالم الاقتصاد الآلي, بل المتطرف في آليته(3), ومن انفصال العناصر المتنافرة عن العناصر المتجانسة يعاد تشكيل الافق المعرفي الاجتماعي الحدي باقامة توازن جديد بين العام والخاص, بين المساواة الاجتماعية التي تفرض بالضرورة نوعا من الضبط الجماعي وبين الحرية الفردية واهمها الرغبة, أي ضرورة ان يلبي الانسان رغبته بمعزل عن كل ما يقمعها ويكتمها وهذا في حد ذاته رفض للعقلنة التي أمسكت بخناق الحياة الغربية في كل مظاهرها حتى ان هوركهامير, ومن منطلقه النقدي الكاره للفاشية, يرى ان هذه الفاشية ما هي الا مظهر من مظاهر العقلانية المغالية في الغرب, أي العقلنة التي أدت الى اللاعقلنة, وفي هذا المعنى يقول: ؛في الفاشية الحديثة, بلغت العقلنة حدا لم تعد تكتفي معه بمجرد قمع الطبيعة بل ان العقلنة فيها صارت تستغل الطبيعة وذلك باستيعاب قوى التمرد المحتملة في هذه الطبيعة ضمن نظامها الخاص.(4)
- لقد كانت كتابات باطاي بمثابة طقوس معقدة وقاسية تستعيد بشعائرية مملة تصف أدق دقائق التجربة الباطنية للانسان الكفيلة وحدها بابراز التخوم والحدود المتموقعة داخلها, وهذا ما جعله يكتشف هذه القساوة في سن مبكرة من خلال محاولة الانتحار التي أقدم عليها بغية تذوق »طعم« الموت تدريجيا بما انه لا مناص منه في النهاية وفي النهاية, وقبل ذلك في البداية لا يبقى لنا من وسيلة لتقمص هذه القساوة سوى الكتابة, صحيح انها لا تكشف كل اسرار الكائن لكنها تبقى الوسيلة الانجع لاختراق مكنوناته الباطنية الدفينة, ولاظهار الجسد الميت والجسد العاري بالمرة لتصوير عنف الموت والارتواء الجنسي وكلاهما تعبير عن الافراط أو شكل من أشكال التطرف الشعائري بوصفه تعبيرا عن انتهاك الحدود الموضوعية في التفريد, فازدراء الوجودات المتفردة كانت من بين المعايير الأقدم التي استعين بها لمحاربة الحيوية المفرطة والحد من اندفاع المتعة التي تضمن امتلاء الحياة واستمرار وجودها وهذا ما يعبر عنه باطاي بقوله: ؛اذا ما رأينا في المحرمات الاساسية, الرفض الذي يضع الكائن في مواجهة الطبيعة بحيث ينظر إليها على أنها نوع مفرط من الطاقات الحية وعربدة الافناء, فانه لن يظل بإمكاننا التمييز بين الموت والجنسانية, فالجنسانية والموت ما هما إلا لحظتان حادثتان لعيد تحتفل فيه الطبيعة مع الكثرة التي لا تستنفذ للكائنات »المفردة« فكل منها يحمل معنى الهدر اللامحدود حيث تعمل هذه الطبيعة ضد ديمومة الرغبة الخاصة بكل كائن.(5) على ان باطاي, وفي مستوى متقدم من التحليل, يسعى الى بلورة مقاربة جديدة مؤداها ان الاسس المعيارية للحياة الاجتماعية تظل مستعصية على الفهم اذا اقتصرنا في تفسيرها على تحليل مفهوم الفاعلية او النشاط الاجتماعي كنقطة انطلاق أولانية لمعرفتها, وبمعنى آخر اذا ما بقينا ضمن منظور وظيفي بحت, بيان ذلك انه يستحيل تبيان المصدر الذي تستمد منه المحرمات مثلا قوة الزامها وميكانيزمات عملها, وكيفية انتقائها للمعايير وترتيبها. وقد كان »دوركهايم« (DURKHEIM) سباقا في الاشارة الى ان مصداقية المعيار- أي المعيار الاجماعي- وأهميته لا يمكن التأكد منهما او اسنادهما تجريبيا الى العقوبات التي تؤدي إليها المحرمات من خلال مواصفات خارجية, أو بالاستناد الى مؤثرات غير بنيوية وهذا اعتقاد منه بان قوة الزام المعايير انما تصدر بشكل أساسي عن سلطة مرجع مقدس لا نستطيع تلمسه والاقتراب منه الا شعوريا, مثل الشعور بالخوف او الرهبة او الشعور بالسعادة والفرح, هذه الاحاسيس المختلفة عند دوركهايم تتحول عند باطاي الى تثمين للتجربة الفنية الباطنية التي يسعى الى اخراجها جماليا في مختلف مؤلفاته, فالفن يؤسس نسبة المعايير بل ويعمل على انتهاكها في تجربة المحرم والتجربة الفنية عنده تتأسس في انتهاك المقدس حيث تتداخل مشاعر متناقضة- متداخلة, مشاعر القلق والنفور والهلع والسعادة الديونيزوسية فالمعيار ومن ثم القانون لم يوجد الا لينتهك فهناك علاقة أبدية بينهما وهي »الانتهاك« ذلك ان التجربة الجنسانية الداخلية عند باطاي تتطلب من صاحبها حساسية للقلق المؤسس للمحرم ليست اقل شأنا من الرغبة التي تؤدي الى مخالفته, هذه الحساسية الدينية التي تربط بشكل وثيق ودائم بين الرغبة والهلع, بين اللغة الشديدة وبين القلق(6) ولا يقف باطاي عند هذا المستوى من تحليله لعملية انتهاك المقدس, بل انه ينتقل من المجال الديني الى المجال الاخلاقي ايضا على خلفية ترابط المجالين وتداخلهما تداخلا يفصل الحدود بينهما أحيانا, فقد انتقل الى نقد الأخلاق ذات التوجه ؛الفيبيري« الذي يبحث في انتشار الدين- بدءا من الطقوس الوثنية القديمة الى الاديان السماوية, من التوحيد اليهودي حتى البروتستانتية- بوصفه تجليا مهما في درب العقلنة الاخلاقية وما »لوثر« و»كالفين« إلا مثال حي على كيفية اكتساب التعاليم والمقولات الدينية لشكل أخلاقي مرن تميزه مسحة عقلية واضحة. لقد ركزنا في الفقرات السابقة على رسم الصورة الخارجية لشكل الكتابة ؛الايروسية« عند جورج باطاي, وبموقعها داخل محيطها الثقافي والاجتماعي الذي انتجت داخله, لذا سنحاول الآن الغوص في البنية الداخلية للايروسية او لمفهوم الرغبة كما بلوره في كتبه المختلفة وبخاصة في »التجربة الباطنية« و»الايروسية« او الشبقية و»السيدة ادوردا« و»دموع ايروس« وقد لا نجد كمدخل لهذه المقاربة- احسن من تلك الصورة- الاشكالية لامرأة عارية الجسد مغطاة الرأس بقناع من الجلد- بايحاء من الانثروبولوجي »سيبروك« (Seabrook) والتي تظهر مدى التداخل الموجود بين البحث الميداني الانثروبولوجي الذي يفترض فيه الحد الأدنى من التفسير والموضوعية, وبين التجربة الايروسية كتجربة شخصية محكومة بظروفها واشخاصها, هذا التداخل يصبح »صلة سرية« بين البعدين, فالصورة- الإشكال تقلب العلاقة العادية في الايروسية كما يرى باطاي, فالجسد عادة مغطى بالثياب والرأس هو العاري, وعندما تنقلب الصورة تتحول المرأة مكمن الرغبة الفطرية الى صيرورة طبيعية وحيوانية, ذلك ان الرأس المغطى يفضي إلى العلاقة المميزة في سحر المرأة بحيث تصير جزءا من الطبيعة بقوانينها العمياء التي لا روح فيها ولا شخصية.(7)
ان تداخل العام مع الخاص او تداخل الانثروبولوجي مع الايروسي في عملية تحليلنا لمفهوم الرغبة ليس معناه إيحاء تعجيزيا اضافيا بإفلات هذه المسألة من أي تحليل او دراسة ولكنه اقرار ضمني بتعقدها وتشابكها بحيث لا تفهم الا هكذا في هذا الاطار العلائقي المتشابك, ولعل المشهد الذي يقدمه لنا باطاي في »السيدة ادوردا« يختصر بجمالية فائقة هذه العلاقة المتشابكة, هذا المشهد يصور رجلا وامرأة وقد التحما بجسديهما بعنف حيواني داخل سيارة قرب المحطة في جو يلفه الظلام والصقيع وفي ركن منزو جلس احدهم يراقب في اندهاش مسرحية الظلال والحمى والاجساد المرتعشة باتقان, إنه يبحث في هذا المشهد عن النفاذ الى سر هذه التراجيديا الانسانية التي يرى فيها غيره مجرد مشهد جنسي مثير, ويجول ببصره ما بين الحركات المثيرة ويخترق به القناع الفاجع للذة وقد لمح ما يستعصي على النظر, لمح جرحا غائرا هو جرح الكينونة وقد اخترقه بخنجره فاتحا امامه منفذا مباشرا على العدم ليستقر هناك, ان هذا المشهد في الواقع هو موضوع اشكلة من مواقع شتى, اذ بالاضافة الى الاشكلة سالفة الذكر والمتحورة حول علاقة الذاتي بالموضوعي الخارجي أي موقع الرغبة كمعطى ذاتي داخل محيطها الاجتماعي وكيف ينظر اليها هي أيضا, هناك أشكلة هامة أخرى هي علاقة الرغبة كتجل وجودي بالموت, وهذا ما حاول ان يصوره في قصة »السيدة ادوردا« من خلال أسطورة الأجساد المتحابة والذوات المعطاءة حتى التلاشي, فهناك موت في الحب والعطاء, وهناك »حب« نوستالجي في رغبة الاندثار والموت, فالجسمان المتعانقان في المشهد يعيشان موتهما: فالعشق هو الموت المرسوم في النظرة العابرة لتلك المرأة حين تستلقي اللذة في فتور هي تضاجع العقل المتأني للعدم, لكن الشاهد المندهش امام مشهد العشق ما يلبث أن يستعيد وعيه بالشر الكامن فيما يجري امامه ويدخل طرفا في المعادلة بقوله, ؛في تلك اللحظة كنت أعلم انه عائد من المستحيل ورأيتها مستقرة في أعماق ذاتها, جامدة جمود الخائر المتعب, رأيت الحب جثة مدفونة في مقلتيها يعلوهما برد وصقيع كبرد الصباح, ويفصحان عن شفافية تكشف لي حضور الموت, فالكل كان نسيجا متداخلا في هذه النظرة: الأجساد العارية, ارتعاشة الألم الذي يخترقني, وذكرى الرضاب المتدفق من الشفاه, فقد كانت كل العناصر متضافرة ومتآزرة فيما بينها لتشرف وتتدحرج تدحرجا أعمى نحو العدم ومع كثرة الاسئلة والتداخلات والتناقضات احيانا هناك حقيقة أساسية وهي ان الموت يقبع في قلب الحياة- أو هو ضرب من ضروب الوجود بتعبير هيدجر- ويكون اكثر تجليا كلما حصلت تلك اللحظات الفريدة التي تتيحها تجربة الحب والعشق. لقد أحس باطاي وبفردانية مطلقة, أهمية هذه الحقيقة الوحيدة والقاسية التي هي الموت, والتي تتضمن حقيقة أقصى وهي أن اللغة العادية تقف عاجزة عن إعطاء أي تفسيرات او مدلولات حولها لذا نجده قد سخر, ولفترة طويلة من حياته العملية, جهودا مضنية لتحسيسنا بهذه التجربة- تجربة الموت- ولو بطريقة ايجابية وغير مباشرة ما دامت اللغة, أداة التواصل الأولى بين البشر, عاجزة على إيصالها وأدائها ان الموت بالنسبة لباطاي- والرغبة أيضا بما انهما وجهان لعملة واحدة- بلا شكل وبلا لون فهو يقبع في كل شكل, ويتلون بكل لون, وهو في الحرب والسلم في الانتشاء وفي التعذيب, لكنه مع ذلك يحترز من أن يصنف ضمن فلاسفة العدم ومنظري الموت وهم عادة الفلاسفة الوجوديون- خاصة ان علاقته مع سارتر لم تكن على ما يرام إطلاقا- فتجربة الموت عنده لا تقوم على الوعي واللغة والتواصل وإنما هي تجربة تتأسس على الحدود القصوى أو التخوم, تجربة تختلط فيها السبل وتنعدم فيها الفواصل بين الموت والحياة, بين المتعة والشقاء, كما أن تجربة الموت لا تختبر الا عبر طرق قصوى وقاسية قساوة الموت, وهي تختصر في طريقين اساسيين: طريق الانتشاء وطريق اللذة المعبرين في الأصل عن ظاهرة واحدة لها وجهان: اللامحدودية والمطلقية, طريقة الانتشاء ويتبعها المتصوفة, في حين ان طريقة اللذة يتبعها العشاق. وبعيدا عن الهدف النهائي الذي تسعى اليه كل تجربة منفردة, فان ما يغري باجراء هذه المقارنة النسبية بينهما هو ان كلتا التجربتين تبتغي التلاشي والاضمحلال للوصول الى المبتغى, وتنزعان نزوعا قويا الى تدليل التخوم القائمة بين المحدود واللامحدود, بين المتعين واللامتعين وبالمرة بين الممكن واللامستحيل حتى تصل في النهاية الى ذلك التناقض الصارخ الذي تصبح فيه الذات والموضوع شيئا واحدا, فالحياة تحيل الى الموت والموت بدوره يحيل الى الحياة وهكذا, اذ لا مكان هنا إطلاقا »للبينية« ان التجلي الأكبر هو »الوحدانية« او »الحلولية«, هذا الاندفاع التوحيدي يتم عبر ما يسميه باطاي »العنف الداخلي« الذي يفسره بانه نزوع كينونة نحو الخروج عن ذاتها وكأنها تطرد ذاتها من مكان تواجد ذاتها لترقب اندثارها وهي تتهاوى في غياهب العدم(9) على ان باطاي, وعلى الرغم من المقاربة بين التجربتين والمماثلة, بينهما, الا انه يميل في النهاية الى تبني تجربة العشق واللذة على حساب التجربة الصوفية, فتجربة العشق في منظوره اكثر أصالة وتعبيرا عن حقيقة الكائن الباطنية, في حين يرى ان تجربة الصوفية ما هي في النهاية الا التعبير الأمثل عن المنزع الديني واللاهوتي للكائن, حتى ان تجربة الفراغ التي تدعيها هذه الطريقة بادعائها الحلول في الذات الإلهية والالتحام بها والتواصل معها ما هي إلا تجربة مفتعلة يعرف مدعيها صيرورتها بشكل مسبق. عكس ذلك نجد ان تجربة العشق أو الحب تجربة واقعية بكل بساطة, وتجربة نستطيع ملاحظتها والتأكد منها ميدانيا وبالطريقة التي نريدها, ذلك أن شخوصها هم فعلا موجودون أمامنا من لحم ودم وعظم يخوضون تجربتهم بكل رغبة حية مادية ملموسة تبدو آثارها للعيان عبر عنفها القاتل الماثل أمامنا كحقيقة لا تحتمل فهي, أي تجربة العشق, تقيم علاقة مضاعفة مع الموت علاقة داخلية عنوانها صوت الذات التي تخوض التجربة وعلاقة خارجية عنوانها موت الآخر او الفريق المشارك في التجربة ومن اتحاد الشريكين يحدث انهيار الوعي وتبدأ لحظة الموت. ان تجربة العشق أو الحب كما يصورها باطاي في قصة »السيدة ادوردا« من خلال التحام الرجل والمرأة في المشهد السابق إنما تفصح عن تلك اللحظة الحاسمة التي يعانق فيها الوعي المستحيل, والتي لا يمكن لأي لغة أن تستوعبها او ان تعبر عنها تعبيرا دلاليا واضحا, إنها لحظة »الاستشراق الكلي« التي لا يمكن لأي لغز أو طلسم أن يصمد أمام أريجها ولمعان بريقها, لحظة تعود بالانسان الى منابعه الفطرية الأولى بحدودها, وأطرافها الأمر الذي يقوده حتما الى وعي جوهره التراجيدي بكل متناقضاته التي تسكنه والتي لا سبيل الى الشفاء منها إلا سبيل الموت. ومع أن سبيل الموت قد لا يوفر الشفاء الأمثل إلا أنه يقدم العزاء السلس للباحث عن الانشطار والتلاشي. ثم إن تجربة العشق لا تخضع لمقاييس العقل والاستدلال المنطقي وإنما تخضع لمقياس الفطرية والتلقائية حتى لا نقول الغريزة بتعبير »فرويد«, كما أن منهجية الكشف عنها تتجاوز المنهجية الاستقرائية القياسية لتغوص الى أبعد حدود الكشف والاستبطان والتجذر, وهذا ما يعبر عنه باطاي بقوله: ؛إن النزوع الجنسي إذا تحكم بالمرء دفعته رغبة ملحة نحو الموت والافتتان به, إذ ما إن يبلغ المرء هذه المرحلة القصوى حتى يسير راغبا في التلاشي مندفعا نحو الموت لا يبتغي إلا الاندثار والاضمحلال, أي التوحد لمجاوزة وضعية الانقسام والتناقض والانشطار التي فرضتها عليه الحياة, وهذا ما يفسر لماذا تبقى تلك الطاقات الغريزية المتوحشة في حالة توثب مستمر تتحين الفرص لتنطلق من عقالها.(10) بمعنى آخر ان تجربة اللذة والجنس تساعدان الإنسان على استعادة آلامه القديمة القابعة في أعماقه السحيقة فتستيقظ غرائزه التي طمرها الكبت عبر الحقب التاريخية المتعاقبة وتستعيد نشاطها وحيويتها من هنا وجب العمل على تحطيم كل أنواع الاغتراب والضغوطات التي شكلت ذواتنا التاريخية وصاغتها ضمن قوالب نسقية جاهزة, وعليه فلنخل المجال للعنف حتى يتدفق سيله الجارف بكل حرية, فطاقته هي الطاقة الوحيدة القادرة على تكسير الحواجز والسدود مكانيا وابطال كل النواميس العقلية والخلقية معرفيا, وفي معركته من اجل ان تستعيد الذات »اللذية« كل عنفوانها وصخبها واندفاعها, ومن ان تدفع بالوعي الى مناطق الفوضى التي ينتفي وجوده عند تخومها يتوصل باطاي الى نتيجة مفصلية مفادها ان تجربة العشق او الجنس تجربة انطولوجية في أساسها فعبرها فقط يتقولب وعي الإنسان حسيا وماديا بالحدود التي تتحكم بذاته ومحيطه, وعبرها أيضا ينفذ الى حالة من التوحد مع ذاته, توحد مؤقت يشبه ذلك التوحد الذي يحققه الفناء بالموت. هذا وإن كان يأخذ ابعادا شبه متداخلة مع نظرة المركيز دوصاد) للمتعة والجنس والموت, إلا أنهما يفترقان في المسار النهائي الذي تسلكه كل تجربة, إذ يرى باطاي أن نظرة دوصاد الى الجنس والعشق نظرة سطحية, إن لم نقل غريبة او غير طبيعية, فشخوصه, وان تعددت مواقع تواجدها, ترزح تحت التعذيب, وتقدم على الانتحار بنوع من اللذة الصوفية فلذتها تختصر في موتها. وهذا يؤدي الى القول أيضا بأنه ينفي الحياة بالموت فيبقى التناقض ماثلا بينهما وبأنه ينقض في النهاية الناموس الذي يتحكم بصيرورة التجربة الجنسية برمتها, كل هذا يؤدي بجورج باطاي الى رفض نظرة دوصاد هذه انطلاقا من أن تجربة الحب (والعشق والجنس) وإن كانت تضع الموت ضمن أفقها, فإنها لا تدركه فالموت بالنسبة لباطاي- وعلى عكس دوصاد- هو دائما نوع من الاختيار لمحدودية الكائن ووعي بجوهره ومجاوزة لانفصامه بحيث يصبح رائد الحياة وبموجبها ينير سبل الفعل الانساني دون أن يصبح مثلا أعلى للحياة وهنا مكمن المفارقة الأصلية في طبيعة هذه العلاقة التكاملية المتوترة بين الموت والحياة, والموت في الأخير ما هو إلا هذا اللاشيء الذي ينخر جوهر الوجود ليدفع بالحياة لكي تفرغ محتواها والطاقات المختزنة في صلبها في آفاق أرحب أي انه يدفعها دفعا إلى الحركية والفعل بدل الانفعال كما هو الحال عند المركيز دوصاد ويخلص باطاي وبخاصة في كتابه »دموع ايروس« إلى أن تجربة الموت والعشق تقدمان لنا كميتين متعادلتين من اللذة مع فارق طفيف لا يكتشفه إلا المتأني المطلع فتجربة العشق الجنسية تجربة تتولد فيها اللذة من كون هذه الأخيرة مشارفة على تخوم الموت, ولكنها مشارفة أقرب الى الحلم أو الخيال منها الى الواقعية في حين أن تجربة التعذيب)) تلتحم فعليا وواقعيا مع الموت مجسدا, فتجربة العشق أو الحب يمكن تكرارها وإن اختلفت الظروف والمظاهر لكن تجربة الموت فريدة لا تتكرر, تجربة ميزتها الاساسية التفرد والحدية. إن الغوص في عوالم باطاي الرهيبة والمستحيلة غير مضمون النتائج, فهو مليء بالرموز والايحاءات, ومليء بالمطبات والمناطق المظلمة المنفتحة على كل الاحتمالات وهذا ما آخر في اعتقادنا الاهتمام بانتاجه الغزير- حتى في موطنه فرنسا- الى بداية السبعينات, بل لنقل بداية الثمانينات. حيث بدا الاهتمام المتزايد) به خاصة وان مسألة الجنس او الجنسانية في الغرب صارت تحتل موقعا استراتيجيا في فكر تلك المرحلة وهو ما ساعد في اعتقادنا على العودة الى الأصول لاستكشاف تحليلاتها ومنظومة تفكيرها المحورية, بالإضافة الى أن جورج باطاي ينفرد- على الأقل في نظرنا- بخاصية هامة وهي انه استطاع أن يجعل من موضوع اللذة والرغبة موضوعا فلسفيا شائكا من خلال ربطه بموضوع شائك آخر وهو موضوع الموت, وهذا بعيد عن الاسقاطات الحسية التي قد يغري بها الموضوع, وقد يعود سبب ذلك الى مسألتين أساسيتين: الأولى وتتمثل في أن تكوين باطاي بالأساس تكوين فلسفي نظري ورثه من خلال مجالسته للكتب عبر سنين طويلة في المكتبات التي كان يشتغل بها, والثانية تعود إلى تأثر باطاي بالسوريالية كمذهب فني له طريقته ومسلكه في التعبير عن قضايا الإنسان المعقدة, وعلى العموم نستطيع القول إن أهم ما نستخلصه من تجربة باطاي هي أنها مغامرة تغري بالقراءة وهذا في حد ذاته أمر هام منقـــول | |
|